إذا خدمت إنسانا طول حياتك ولم يقل لك كلمة شكر فلا تذهب نفسك حسرات عليه، فالشكر ثقيل على من تعود على أن يخدمه الناس وعلى من يعتقد أنك تقدم له خدمة خوفا منه أو طمعا فيه، هذا الصنف من الناس – إن لم يكن من أرحامك أو له عليك سبق فضل- فلا تنتظر منه إلاّ المزيد من التمرد والأذى
فطبيعة كثير من الناس "نكران الجميل" كما أن ديدن كثير من النساء "كفران العشير" وكلاهما يلتقيان في نقطة جوهرية هي أنهم يعتقدون أنهم إذا لم يسيئووا إليك فذلك إحسان منهم إليك، وعلامة ذلك أن يفاخر أحدهم بنفسه أمامك قائلا لك بكل صفاقة وجه وقلة حياء : "تذكر أنني لم يصدر مني ما يسوؤك منذ تعارفنا"، فإذا سمعت من أيّ "رهط" هذا التبجح فقل له : شكرًا.
1- نماذج من البشر : كم في هذه الدنيا بلاوي ولكن أشدّها وقعا على النفس أن تجد نفسك محاطا بترسانة من الحمقى، وإذا كان الشاعر الحكيم قد قال :
لكل داء دواء يستطب به * إلاّ الحماقة أعيت من يداويها
فإنني أعترف لهذا الشاعر ببراعة الجمع والمنع، وأضيف إلى "أمة الحمقى" أمة أخرى قذفت بها ظروف الحياة إلى واجهة الأحداث وصار لها في كل قسمة سهم وفي كل محفل خطاب ومع كل مناسبة موعد، وفي كل مثل مضرب ومورد..إنها "أمة لصوص الوقت" الفارغين من كل شغل المتفرغين "لقتل وقتك" في حكايات فارغة :
- لا يترتب عليها عمل ولا تقوم بها حجة
- ولا ترفه عن مؤمن ولا تدفع عنه سأمًا ولا تعبا
- ولا تساهم في حل مشكلة أو التفريج عن كُربة
- ولا تزجي فراغا أو تخفف عن الجاهدين رتابة الحياة
بل على النقيض تماما، هده الأحاديث "فارغة" يحشد لها صاحبها كل ما يغضب الرب، ويعكر القلب، وينشر الحقد، وينسف جسور التقارب بين الناس، وإذا أبديت أمام سارق وقتك التأفف من تفاهة أحاديثه أو نصحته بأن يستثمر وقته في ما ينفعه ويقربه إلى الله تعالى..ثار في وجهك ورماك بأقبح النعوت وأفضع الأوصاف لأنك صرت – في نظره- متكبرا لا تسمع الكلام ولا تقبل النصيحة وتتكبر على إخوانك ممن يحبون أن يجالسوك وينقلون إليك واقع الحال لأنهم –بزعمهم- يغيشون مع الناس ويختلطون بالعامة وليسوا مثلك يعيشون معزولين في أبراج عاجية.
إن الذي ابتلاه الله بمثل هذه النماذج البشرية"المارقة" عن الدين والخلق والعارية من كل حياء والبعيدة عن أدنى آداب الزيارة والحديث، فسرقوا وقتك وضيعوه في أحاديث الفراغ وملأوا مخك بكل تافه وساقط ومتروك.. فما عليك إلاّ اختيار واحدة من أربع طرق للتعاون معهم قبل أن تكتشف أن عمرك ضاع في القيل والقال وترك الأعمال وخسران أفاضل الرجال، فإذا زارك أحد من هؤلاء فرحب به وسلم عليه واسأله حاجته، فإن وحدته مصرا على أن يقتل وقتك فجرب معه واحدة من أربع :
- كلفه بعمل تدرك أنه سوف يشغله عن اللغو ويعلمه الأدب والسلوك الحضاري
- استمع (أو تظاهر بالاستماع إليه) وأنت تقوم بعمل نافع (ولو كان بري قلم)
- افتح معه حوارًا حول موضوع جاد لحصر الحديث حوله ولا تترك له مجالاُ للهرب
- أطلب منه أن يساعدك على استكمال عمل لا تستطيع إنجازه وحدك
ومع أن النتيجة سوف تكون دون المستوى المطلوب ولكن لا توجد طرق أخرى لمعالجة هذه النماذج البشرية إلاّ هذه المحاولات اليائسة، ذلك أن بعض الناس لا يعرفون قيمة الوقت ولا يقدرون نعمةَ العمل ولا تهمهم إلاّ "مصالحهم" الضيقة لذلك تجدهم يغيبون عنك إذا كانت لهم مصالح أو ارتباطات نفعية فإذا قضوا مآربهم وفرغوا من كل شأن خاص بهم كان يشغلهم "تفرغوا" لك ولسرقة وقتك، وهم مصممون على زيارتك والجلوس معك مطولا بغير مراعاة لأدنى آداب الزيارة، فوقتك في نظرهم فارغ وأنت بانتظارهم ليملأوا وقتك بالأحاديث الفارغة :
- فهم لا يطلبون موعدًا، وإنما يحددونه لأنفسهم إذا كانوا هم فارغين، وكأنك "فارغ شغل" بانتظارهم
- وهم لا يتصلون بك ليعلموك أنهم قادمون وإنما يطرقون باب بيتك في أي وقت يختارونه ليقولوا لك إنهم أمام الباب ولا يستطيعون الانتظار لأنه ليس لهم وقت يضيعونه في الإنتظار.
- وقد لا يكتفي الواحد منهم بزيارتك منفردا بل يستصحب معه من يشاء هو من أقاربه أو أصدقائه أو جيرانه (أو ربما السائق الذي جاء معه) ليتعرف عليك ويطرح عليك بعض الانشغالات..
- الزيارة قد تكون في أية لحظة، فعندهم من الساعة الثامنة صباحًا (أو من بعد صلاة الصبح) إلى العاشرة ليلا (أو من بعد صلاة العشاء) كلها مواقيت مناسبة جدا للزيارة، لأنهم يعرفون أنك تنام بعد منتصف الليل وتستيقظ قبل أذان الفجر، وليس لك أسرة ولا أقارب ولا مرضى ولا زيارات خارج البيت..وليس من حقك أن تكون مشغولا عنهم بأي عمل آخر كما لا يليق بك أن تكون مع ضيف آخر..فكيف يزورك ضيف وهم يعتقدون أنهم هم وحدهم الضيوف، وكل واحد منهم يتصور أنه صديقك الوحيد، فهو "الضيف الوحيد" الذي يجب أن تنتظره.
وأبشع ما في هذا السيناريو الممجوج أمران مقرفان :
- أن يطلب منك زائرك الثقيل تقديم تقرير أو عرض حال حول قضايا لا علاقة له بها (هي من خصوصياتك) وإذا لم تحبه ترى في وجهه الغضب والانقباض..
- أن يستصحب معه "غريبا" يدخله عليك دون علم منك، ولما تسأله عن هوية صاحبه يجيبك مستنكرا : كيف لا تعرفه؟ هذا معلم ولدي..أو هذا مدير المدرسة التي تشغل فيها زوجتي..أو هذا صهري..أو هو رجل أعمال يريد أن يطرح عليك بعض الاستفسارات..أو هو صديقه الأوربي الذي جاء لزيارته فاقترح عليه "صاحبنا" أن يقوما بزيارة لك يتعرف عليك..ولا أقول شيئًا آخرا !؟
إن الحياة أغلى من أن "نحرقها" في المجاملات، والأعمار بيد الله ولكنها أقصر من أن نضيعها في القيل والقال، وفي كل الأحوال –وتقديرا لقيمة الوقت- توجد نماذج من الناس يصبح غلق الباب في وجوههم من أوكد الواجبات، لأنه لا يتم واجب العمل إلاّ بغلق الباب في وجوههم لواحد من سببين :
- إما تأديبًا لهم حتى يكفوا عن سرقة أوقات الناس
- وإما شكرًا الله تعالى بالصبر على أذاهم حتّى ينقضي عمرك في "الترانزيت".
ومع ذلك تبقى الحياة جميلة لأنها مليئة بالنماذج الطيبة وبالأخوة الذين تشتاق إلى زيارتهم والجلوس معهم والسماع إلى فواكه كلامهم لأنها حكم ودرر وفيها حياة القلوب وشفاء النفوس..
2- شكرًا ..مع العيوب : إن الذي يبحث عن صديق بلا عيوب إنما يبحث عن وهم ويفتش عن سراب في عصر لم يعد فيه للقدوة الكاملة مكان يذكر، وعلى من يبحث عن هذا "الكنز النادر" الوجود في عالمنا اليوم أن يختار بين أمرين أحلاهما مرّ :
- إما أن يقبل بصداقة ناقصة فيها خير وشر وحلو ومر..ويتكيف مع هذه الوضعية
- وإما أن يعيش في هذه الدنيا بلا صاحبة ولا ولد، فالاعتقاد بوجود "الإنسان الكامل" مضى مع زمن النبوات، والذي مازال يبحث عن هذا الإنسان الكامل يجرب "صحبته" مع نفسه أو يتخذ من نفسه صاحبًا :
- فإن وجد نفسه بلا عيوب صار من حقه البحث عن إنسان كامل
- وأن وجدها مليئة بالمثالب والمعايب يبدأ بإصلاحها ثم يبحث لها عن نظير.
إن هذه النظرة الواقعية للأشياء تقودني إلى موضوع الشكر والصبر بعيدًا عن ضغط الواقع، فمن ابتلاه الله تعالى بصحبة طيبة تذكره بالخير إذا نساه وتعينه عليه إذا شرع في تنفيذه، أما إذا ما ابتلاه الله تعالى بصحبة سوء و "طينة" شر لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ولا ترعى حرمة وجب عليه أن يكون أيوب زمانه فيصبر ويصابر ويرابط ويحتسب كل ذلك لله تعالى، فهو وحده القادر على مدّة بالعون والتحمل ليجتاز مفازة الحياة وخضخاضة الذين خُلقوا لينغصوا على الناس حياتهم.
قد تفعل الخير في الناس، وتتعب من أجل راحتهم، وتجوع ليشبعوا، وتظمأ ليرتووا، وتتعرى ليكتسوا..وتقدم صدرك للرصاص ليعيشوا هم الأمن والاستقرار، فإذا توارت الأزمات وجاءت ساعة الشكر والعرفان : "سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير" وليس لك أمام هذه النماذج من الناس إلاّ أن تفوض أمرك لله تعالى، فالشكر ثقيل على بعض النفوس، وهو أثقل على من يعتقد أنه خلق ليخدمه الناس، وأنك عندما تقدم له من الخدمات ما يطلبه إنما تقوم بواجبك تجاهه لأنه وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب، هؤلاء الناس لا تنتظر منهم شيئًا، بل توقع منهم الأذى باليد واللسان فهم الذين قال الله في أمثالهم : "سلقوكم بألسنة حداد"، وعزاؤك الوحيد هو قوله تعالى : "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزء ولا شكورا" ومعنى ذلك تربويا :
- أن تقدم لهم الخدمة ونيتك أنك تقدمها لله
- أن تعاملهم بالحسنى وأن تقابل سوءهم بالخير لوجه الله
- أن تدفع بالتي هي أحسن طمعا في أن تنال مرضاة الله
- أن تكظم غيظك عنهم التماسًا لحب الله بالإحسان إلى من أساء إليك، ووصل من قطعك والعفو عمن ظلمك.."وخالق الناس بخلق حسن".
أما إذا انتظرت من أحدهم شكرا على معروف أسديه له أو طمعت في أن يرد لك معروفا ولو بابتسامة أو بهزة من رأسه، أو يعترف أنك صاحب يد بيضاء عليه.فانتظر حتى يسلم حمار الخطاب، وليس أمامك في هذه الحال إلاّ أن تكظم غيظك وتبحث عن تعويض لمرارة قلبك، فعوض إحساسك بمرارة نكران الجميل وكفران العشير بحلاوة العمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، فإذا قدمت لأحد خدمة أو مددت له يد المساعدة فعضها أو قطعها فلا تغضب ولا تشكو ذلك للناس وإلاّ خسرت مرتين :
- مرة بوقوعك في حسرة الندم على جعل المعروف في غير أهله "فأكل تمرك وعصى أمرك". وما أكثر من يأكل التمر ويعصي الأمر..
- ومرة بضياع أجر الصابرين عند الله تعالى، لأنك طلبت مقايضة المساعدة بشكر عاجل فضاع منك الجهد ولم تسمع من صاحبك كلمة شكر تشجعك على الاستمرار في فعل الخيرات..
الخاتمة :
احذر أن يحملك كفران العشير أو نكران الجميل على التفكير في سد أبواب الخير في وجوه المحتاجين، أو قطع صلتك بمن وصلته فقطعك وأكرمته فأساء الأدب معك، وتذكر قصة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) مع ابن خالته مسطح الذي كان يطعمه ويكسوه ويرعاه ويأويه..ومع كل هذا الفضل تورط في الإساءة إلى ابنته الطاهرة عائشة (رضي الله عنها) وانخرط في زمرة الأفاكين، وقد همًّ الصدَّيق بأن يقطع خيره عنه ولكن رسول الله (ص) – وهو الذي جُرح في كرامة فراشه الطاهر من طرف أمثال هذا الدعي – نادي أبا بكر وقرأ عليه قوله تعالى :"ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا ألاّ تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" وكرر عليه قوله تعالى : "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" حتى قال أبوبكر : بلى يا رسول الله..بلى يا رسول الله.. فالمحسن إلى المحسن له أجر واحد مع الشكر..والمحسن إلى المسيء له أضعاف أضعاف الأجر مع الصبر، وبين الشاكرين والصابرين وشائج من الإيمان والإحسان تندرج كلها في أحاديث الذوق، وهي لمسات بحاجة إلى حديث لاحق. إنشاء الله.