daka2 Admin
عدد المساهمات : 857 تاريخ التسجيل : 15/06/2008
| | رباعيات الورع | |
تذ كير : في الحلقة الأولى تناولنا تعريفات عامة بالأحاديث الأربعة التي جعلها بعض علمائنا أساسا للدين وأداروا عليها اجتهادات تربوية وفقهية رفعتها إلى مقام فروض الأعيان الواجب إنجازها إلا أن يحول دون ذلك عذر قاهر، وحتى في هذه الحالة يتوجب على كل مؤمن أن يفقه –على وجه الإجمال- معنى النية، وحدود الحلال والحرام، وضوابط الطيبات، وآداب التعامل مع الناس..
وقد حاولنا أن نخرج من التنظير المثالي إلى استخلاص الدروس التربوية المساعدة على تحصيل الورع في رباعيات مستخرجة من هذه الأحاديث الأربعة وشروحاتها العملية، وأول درس مهم وحيوي هو فقه علاقة الأعمال بالنيات.
أ- الدرس الأول، لا عمل إلاّ بنية : من لطائف هذا الحديث:"إنما الأعمال بالنيات.." أن عده بعض العلماء نصف العلم وقال آخرون هو ثلث العلم، وأدخله آخرون في سبعين بابا من الفقه، وبدأ به الإمام البخاري كتابه "صحيح البخاري" وقال آخرون هو ربع الفقه ، ورواه عن طريق عمر ابن الخطاب(رضي الله عنه) أكثر من مائتي عالم ومحدث وفقيه، مع أنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ عمر، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن أبي وقاص ولم يروه عن علقمة إلاَّ محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن التيمي إلاَّ يحي بن سعيد الأنصاري..ولكن علماء الأمة تلقفوه بالقبول فرواه كبار العلماء والأئمة والمحدثين كالإمام مالك، والبخاري، والثوري، والأوزاعي وابن المبارك، والليث بن سعد، وشعبة، وابن عيينة..وسواهم.
فلماذا كل هذا الإهتمام بهذا الحديث؟ولماذا ركز على بيان معانيه جمّ غفير من العلماء والفقهاء حتى ليخيل إليك أن مدار العبادات كلها على هذا الحديث؟، لأنه متعلق بشيء عظيم وهو النية التي محلها القلب، وهل كان الإنسان إلا لسانا وقلبا كما قال زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبقى إلا صورة اللحم والدم
فالنية، في شرع الله، هي باب كل عقيدة والنية هي طريق قبول العمل أو ردّه من عدة وجوه منها: - أن النية تحول العادة إلى عبادة. - ولأنها تقطع الشك باليقين. - ولأنها تطهر القلب من الشرك والعمل من الشك. - ولأنها تقطع حظ النفس وتلحق كل جهد بالله تعالى. - ولأن النية أبلغ من العمل..إلخ. لذلك جاءت الأعمال الشرعية كلها محصورة بالنيات، فلا عمل إلاَّ بنية، "إنما الأعمال بالنيات" والمقصود بالأعمال هنا هي الأعمال المشروعة، فالفساد لا يحتاج إلى نية، والخروج عن دائرة المباح إلى المعصية يسقط النية أساسا لأنه خروج عن التكليف الشرعي إلى المعصية الشيطانية، كما صنع إبليس عندما رفض السجود لآدم (عليه السلام) معتقدا أنه أفضل منه لأن عنصر إبليس من مارج النار وعنصر آدم خليط الطين:"خلقتني من نار وخلقته من طين"؟؟.
لذلك عندما تذكر النية تتجه حصريا إلى "نية" العمل الصالح، أما الفساد والضلال والمعصية والانحراف والزيغ..إلخ فهي أعمال خارج التكليف الشرعي، بل هي معصية لله وبالتالي لا تحتاج إلى نية، فالنية يقصد بها وجه الله، أما غير وجه الله فلا يحتاج إلى أن تقرن الأعمال فيه بالنيات ، فكل الأعمال التي لا يتوجه بها الإنسان إلى الله تكون لغيره، أي للشيطان كما قال ربنا عز وجل حكاية عمن يريدون أن يرضوا الله تعالى، وفي الوقت نفسه يجتهدون لإرضاء شركائهم:"وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا.فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا.فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله.وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.ساء ما يحكمون"، تلاحظ أن الله تعالى يرفض أي عمل فيه"نية" شرك مهما كان هذا العمل جبارا وذا نفع عميم، فقد جاء في الحديث القدسي:"من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك"، ولذلك أوضح علماؤنا أن مسألة النية قضية فاصلة، فما لم يكن لله100%فهو لغير الله100%وليس هناك قسمة بين الله والمشركين، تعالى الله علوا كبيرا، ولأجل هذا قلنا: إن النية هي التي تميز العمل وتحدد القصد، فإذا كانت الأعمال لله وجب على صاحبها أن يجردها من شوائب الشرك ومن حظوظ النفس، أما إذا كانت لغير الله فلا تحتاج أصلا إلى نية.. فالشيطان يقبلها بغير نية. فالنية لها معنيان واضحان: - معنى التمييز الذي يقصد به الناوي (صاحب النية) رفع اللبس عما يقوم به من عبادات ظاهرها واحد ولكن النية تميز بعضها عن بعض، فيقال مثلا : (هذه صدقة وليست زكاة..وهذه صلاة مسافر وليست نافلة..وهذا سفر بنية الحج وليس للعلاج أو السياحة..وهذه أضحية للعيد وليس لحوم الصدقات..وهذا طواف القدوم وليس طواف الإفاضة..وهذا إفراد وليس تمتعا..وهكذا). وهذه هي النية التمييزية بالمعنى الفقهي. - ومعنى القصد الذي يريده صاحب النية بعمله الذي نراه –في ظاهره- حسنا وقد تفسده النية إذا كان قصد صاحبها الرياء أو السمعة أو البطر، فمن قُتل في ساحات الوغى عددناه شهيدا لكن يوم القيامة يتميز شهداء عن شهداء فيقال لبعضهم :قاتلتم ليقال بطل وقد قالوا، ويحصل مثل ذلك لبعض أهل الكرم والجود والشجاعة والخطابة والدعوة ومتصدري المجالس وعشاق الصفوف الأمامية والمرائين في النوادي.. وسواهم وهذه هي النية المقاصدية بالمعنى الأخلاقي.
والمعنيان التمييزي والمقاصد أو(الفقهي والأخلاقي) مرتبطان بالإخلاص الذي هو سر من أسرار الله تعالى لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده، حتى الملائكة عليهم السلام يكتبون ظاهر العمل ولا يعلمون شيئا عن "كنهه"، فالنية يعلمها الله والإخلاص بين العبد وربه.. لأن النية هي باب التوحيد ومنها تُفتح منافذ الشرك والنفاق:" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا،وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون"، لأن القول باللسان إقرار ظاهر، ولا يعلم "باطن" التوحيد ونفاق الشرك إلاَّ الله، أما مظاهرهما فقد دلت عليهما الآيات الكثيرة والأحاديث المعلومة في باب النفاق، ويكفي أن يراجع الإنسان تفسير سورة المنافقين ليدرك "خبايا" النفوس وأسرار العبادة: - فالمنافقون جاؤوا يشهدون بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة. - والله تعالى يؤكد العلم بهذه الشهادة. - ولكنه سبحانه يكشف كذب نياتهم وخبث طوياتهم مع صدق ظاهر ألسنتهم، فهل يملك أحد غير الله أن يكشف علاقة التناقض بين الجنان واللسان والأركان. فإذا قلت لك : إني أحبك، فهل تملك أن تدرك كنه هذا الحب أم أنك تسلم بالظاهر تاركا الباطن لعلام الغيوب؟ ومن هنا ندرك قيمة هذا الحديث وعظمة شانه: - فالأعمال المشروعة تبدأ بالنيات قبل مباشرتها. - وتصح أو تبطل بالنيات أثناء القيام بها. - وتكمل أو تتناقص بالنيات بعد الإنتهاء منها. - وقد تبطل بالمن والأذى حتى لو كانت النيات(قبل الإنجاز) صادقة، وكم هدمت ألسنة السوء جبالا من الحسنات كانت نية فاعلها مخلصة لله ثم إنقلب عليها لما لم يقابله المستفيدون منها بجزاء ولا بشكور، فراح يمدح نفسه على ما صنع ويزكيها على ما أنجزته من عظائم الأمور، فقصم ظهر نفسه بالمنَّ والأذى و"نسف" حسناته بالرياء وطلب الحمد..وهو في منتصف الطريق. إن النية بحاجة إلى صفاء ودوام، والكرِّ عليها بعد إنجاز أجزاء مما هو مشروع يشبه من ندم على بيع أمضاه مع صاحبه ثم عاد يطالبه برد البضاعة لأنه أخطأ في تقدير الثمن، أوكان "غافلا" لحظة التقاضي أوكان جاهلا بحقيقة ما باع قبل إبرام العقد فلما أفاق نقض نيته وكشف عن حقيقة طويته، فكان له مانوى :"وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا معناه: أن كل عمل تعظمه النية أو يذهب به الرياء، ولكن لماذا كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المقطع، وقد كان الإستهلال واضحا "إنما الأعمال بالنيات" فقد كان يكفي الإعلام بأن الأعمال بالنيات دون أية إضافة أخرى.. فالقول:إنما الأعمال بالنيات واضح، لكن الزيادة في التوضيح دالة على خطورة الأمر، لذلك عيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لكل ناوٍ حظه مما نوى. - فمن كانت هجرته(في نية صاحبها) لله ورسوله كُتبت لله ورسوله. - ومن كانت هجرته(في نية صاحبها) لدنيا يصيبها أو إمرأة يتزوجها..كتبت لغير الله وإن هاجر مع المهاجرين وتعب معهم وخاف من المطاردة مثلهم وتعرض للأذى معهم.. فكل عمل له ظاهر (يعرفه الناس ويرونه) وباطن (يعلمه الله تعالى)، فظاهر الأعمال لله، لكن القصد ليس لله وإنما هو الدنيا أو الزواج بأم قيس؟؟ فالنية هي التي تحدد الحكم على العمل، والقصد هو الذي يفرق بين مهاجر ومهاجر، وبين عابد وعابد، ومناضل ومناضل..وشتان بين متحرك في طريق الهجرة وقلبه يخفق شوقا لملاقاة أم قيس وبين متحرك في نفس الطريق وقلبه يخفق لمعانقة الأحبة ، محمد وصحبه، وأختم هذا الدرس البليغ في فقه النيات بإحالة فقهية تربوية على ما جاء على ألسنة المفسرين لكتاب الله في أواخر سورة الكهف لقوله تعالى:"قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.."الآيات
فلا يكفي إعتقادك أنك تحسن صنعا حتى تكون نيتك خاضعة لشرط الصواب في العمل، فشارب الخمر ولو كان بنية التداوي به قد خالف أمر الله وانتهك حرماته، فلا يليق أن تنوي طاعة من أمرك بارتكاب ما نهاك الله عنه، "فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" فهل يليق أن تسرق المال لتبني لله مسجدا، أو تنوي الذهاب إلى بيت الله الحرام وتقتطع تذكرة باتجاه بيوت الشيطان؟ !
خلاصة الدرس الأول : الورع هو الإنتهاء عما نهى الله عنه والتزام ما أمر الله به، وأن يجدك الله حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك، والنية في هذا الدرب تحتاج أن تُسيّح بسياجين واضحين : - القصد الذي يقطع أواصر النية وحبالها بكل ما سوى الله - والصواب الذي يضبط حركة الأعمال بشرع الله تعالى، فلا تخرج عن شرع الله ولا عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أي أن يكون العمل صالحا في ذاته (عبادة) وأن يقصد به صاحبه وجه الله وحده لا شريك له : "فمن كان يرجو لقاء فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" فكل راغب في لقاء الله يقع عليه واجبان: واجب العمل الصالح وواجب النية الخالصة لله من الشك والشرك والشبهة والشهوة. | |
|
الخميس 28 يناير 2010 - 0:25 mazounaaer